"عالم ترامب- نهاية النظام العالمي وبداية حقبة جديدة"

المؤلف: هشام جعفر09.12.2025
"عالم ترامب- نهاية النظام العالمي وبداية حقبة جديدة"

مع انطلاق الولاية الرئاسية الثانية لدونالد ترامب، اشتدت وتيرة التساؤلات والتحليلات حول ملامح العالم الجديد، الذي يمثل في جوهره نهاية حقبة وبزوغ فجر حقبة مغايرة. لقد تلاشت، كفقاعات الصابون، تلك المسلمات القديمة التي طالما اعتبرت من الثوابت، وتهاوى النظام العالمي الليبرالي الذي ترسخ في تسعينيات القرن الماضي، ليصبح أثراً بعد عين.

إننا نقف اليوم على أعتاب منعطف حاسم، لحظة فارقة لإعادة صياغة العلاقات الدولية، لا تقل بأي حال من الأحوال أهمية عن تلك الأحداث الجسام التي غيرت مجرى التاريخ، كسقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1989، أو نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، أو حتى حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1919.

في كل واحدة من هذه اللحظات المحورية، كان النظام القديم يترنح ويسير بخطى متثاقلة نحو حافة الهاوية، قبل أن ينهار بشكل مفاجئ وغير متوقع. ورغم أن الصورة لم تكن واضحة تمامًا أمام أعين معاصري تلك الحقبة، إلا أننا نستطيع الآن، وبعد مرور سنوات، أن نتبين بوضوح أن النظام الجديد الذي قدر له النجاح والانتشار في كل حالة، كان قيد التكوين والتشكل منذ فترة طويلة.

ترامب، كما يرى ديفيد والاس-ويلز، الكاتب البارز في صحيفة "نيويورك تايمز" والمؤلف الأكثر مبيعًا، "يسدل الستار على القرن الأميركي". فالنظام الذي شيد على مدى عقود طويلة من الزمن، وبجهود مضنية من قبل القوة الأميركية، ولصالحها بالدرجة الأولى، يتم التخلص منه الآن، وبشكل جذري، لمنع استخدامه ضد القوة الأميركية ذاتها.

من نافلة القول أن نؤكد ما الذي يصبو إليه دونالد ترامب: المبدأ القائل بأن الفوضى العالمية تفتح الباب على مصراعيه أمام القوى العظمى، التي طالما قيدتها الأعراف والقواعد الدولية، لتنفض عنها غبار القيود وتطلق العنان لقدراتها.

"إن النظام العالمي الذي نشأ وترعرع بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد نظامًا عتيقًا ومتهالكًا فحسب، بل تحول الآن إلى سلاح فتاك يُستخدم ضدنا"، هكذا أعلن ماركو روبيو، بكل صراحة ووضوح، في جلسة استماع أمام لجنة مجلس الشيوخ في شهر يناير/كانون الثاني الماضي.

وفي تغريدة له على منصة "X" (تويتر سابقًا)، كتب المراقب الفرنسي أرنو بيرتراند: "لا شك أن الهيمنة ستنتهي عاجلًا أم آجلًا، والآن تختار الولايات المتحدة إنهاءها بشروطها الخاصة". وأضاف قائلاً: "إنه النظام العالمي ما بعد أميركا، الذي تجلبه إليكم أميركا نفسها على طبق من فضة".

وبينما يحتضر النظام القديم، فإن السؤال المحوري الذي يسيطر على العلاقات الدولية اليوم هو: ما هي طبيعة النظام الجديد الذي يصارع من أجل الولادة؟ من هنا تنبع الأهمية القصوى للمقال الذي نشره المؤرخ نيلز جيلمان في مجلة "Foreign Policy" أواخر الشهر الماضي، والذي يبحث فيه عن صيغ ما بعد النظام الليبرالي الغربي، في محاولة جادة لرسم ملامح المستقبل.

تجدر الإشارة إلى أن الهيمنة الجديدة التي ترسخت أقدامها بعد الحرب الباردة في تسعينيات القرن العشرين، استندت إلى عدة ركائز معيارية أساسية، وهي:

  1. أنه لا ينبغي إعادة رسم الحدود الدولية بالقوة العسكرية الغاشمة، وكان الدفاع عن هذه القاعدة، بعد الحرب العالمية الثانية، بمثابة السبب الظاهري لحرب الخليج عام 1991.
  2. أن مبدأ السيادة الوطنية يظل ساري المفعول، ما لم تُرتكب فظائع جسيمة وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وهو الاستثناء الذي تم إضفاء الطابع الرسمي عليه في نهاية المطاف تحت عنوان "المسؤولية عن الحماية".
  3. أن التكامل الاقتصادي والمالي العالمي ينبغي أن يتبناه الجميع، لأن التجارة الحرة والعادلة ستعود حتمًا بالنفع والفائدة على جميع الأطراف المعنية.
  4. أن النزاعات والخلافات بين الدول سوف تُحل من خلال المفاوضات القانونية في المؤسسات المتعددة الأطراف، وكانت ترقية الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (GATT) إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) عام 1995، المظهر المؤسسي الرمزي لهذا المبدأ.

ويرى المؤرخ الأميركي أن "المسمار الأخير في نعش هذه المبادئ -بعد التحدي الصيني والروسي- هو أن الولايات المتحدة، التي ادعت في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنها أعظم المدافعين عن هذه المبادئ، ترفض الآن كلًّا منها بشكل قاطع".

وإذا كانت الحرب الدائرة في غزة هي بمثابة النهاية للنظام الدولي المبني على القواعد، كما أعلن أمين عام منظمة العفو الدولية، فإن عالم ترامب هو عالم خالٍ تمامًا من القواعد والضوابط؛ إذ لا ينبغي فيه الانخراط في النظام أو البنية، بل تحكمه القاعدة الخالدة: "أنا القاعدة، والقاعدة أنا".

لقد أهدرت غزة الرأسمال المعياري للنظام الليبرالي الغربي، وللنظام الدولي القائم على القواعد، والذي جرت مراكمته بشق الأنفس وعناء بالغ على مدى عقود طويلة من الزمن، تحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية.

لقد كشفت الحرب على غزة عن الأوهام التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية بشأن الإنسانية المشتركة. وتوصلت أنييس كالامارد، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية، في مقال نشرته في منتصف شهر فبراير/شباط 2024 في مجلة "Foreign Affairs"، تعليقًا على الحرب المأساوية في غزة، إلى استنتاج مفاده أن "النظام القائم على القواعد، والذي حكم الشؤون الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في طريقه المحتوم إلى الزوال، وربما لا تكون هناك عودة إلى الوراء". وتتابع قائلة: "إن هذا التفكك والانهيار، الذي يتجلى بوضوح في تدمير غزة ورد فعل الغرب عليه، يشير بوضوح إلى نهاية النظام القائم على القواعد، وبداية حقبة جديدة لم تتضح معالمها بعد".

أما عالم ترامب، فقد فصل تمامًا بين القوة المادية الهائلة لأميركا، وبين الشرعية الأخلاقية التي ادعتها لعقود طويلة. وهذا الافتراق لا يثير أدنى اهتمام لدى ترامب في الوقت الراهن. وكثيرًا ما يزعم الرجال الأقوياء الشعبويون في مختلف أنحاء العالم أن قيم المجتمع المنفتح، كالتعددية والتسامح والحداثة، هي في الأساس قيم مستوردة من الغرب. ويقولون إنهم يسعون جاهدين نحو بناء ثقافة سياسية وطنية أصيلة، تختلف جوهريًا عن الليبرالية الغربية.

إن صعود الصين وعودة روسيا إلى الساحة الدولية يجب أن يُفهما أيضًا على أنهما عملان من أعمال التوازن الثقافي، أي استجابات ليس فقط للهيمنة الجيوسياسية للولايات المتحدة على مدى العقود الثلاثة الماضية، بل أيضًا لانتشار الليبرالية في جميع أنحاء العالم.

ونرى ترامب يؤطر الصراع داخل الولايات المتحدة في سياق الحروب الثقافية الطويلة الأمد بين القيم التقليدية المحافظة للأسرة والدين، والتي تجد جذورها في التقاليد اليهودية-المسيحية، وبين أيديولوجية "اليقظة" التي يتبناها التقدميون والنسويات ومجتمع الميم وأصحاب دعاوى العدالة العرقية والمناخية… إلخ، في استعادة لمعركة تم توصيفها ذات يوم بأنها "البابا في مواجهة مادونا (مغنية البوب)".

إن حرب ترامب الشرسة على التنوع والإنصاف والشمول هي في جوهرها حرب على عصر الحقوق المدنية نفسه، ومحاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء فيما يتعلق بالحقوق المتساوية. وتحت ستار العدالة والجدارة، يريد ترامب وحلفاؤه استعادة عالم يكون فيه المؤهل الأول والأهم لأي وظيفة مهمة هو ما إذا كنت أبيضَ وذكرًا.

إنه لا يضع الكثير من الثقة في الأنظمة القائمة على القواعد أو التحالفات أو المنتديات المتعددة الجنسيات. عالم ترامب يجب أن يكون مستعدًا لاغتنام اللحظة، وتحقيق الاستفادة القصوى من أي فرص تأتي في طريقه. النظام الدولي فيه شديد الشخصنة. وترامب لا يتقيد بشكل مفرط بخطوط الصدع المحددة: ديمقراطي وغير ديمقراطي، أو عالم حر وغير حر. وهو غالبًا ما يفضل الأفراد على الحكومات، والعلاقات الشخصية الحميمة على التحالفات الرسمية.

إن إدارة ترامب لا تستخدم الهياكل الشاملة للتعاون الدولي، كالأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE). وبدلًا من ذلك، قد يتعامل هو ومستشاروه – وخاصة أولئك الذين ينحدرون من عالم التكنولوجيا – مع الساحة العالمية بعقلية شركة ناشئة، أو شركة تشكلت للتو، وربما يتم حلها قريبًا، ولكنها قادرة على الاستجابة بسرعة وإبداع لظروف اللحظة، على حد قول والاس.

وبالمثل، لا يهتم ترامب بالأمركة كأجندة للسياسة الخارجية، ويفصل شعوره بالاستثنائية الأميركية للولايات المتحدة عن العالم الخارجي غير الأميركي بطبيعته.

والواقع أن كراهية ترامب الشديدة للعولمة تجعله في نفس الخندق مع بوتين وتشي ومودي. وفي رحابه، يجد المحافظون اليمينيون الدعم والمساندة، كما أعلن نائبه في مؤتمر ميونخ للأمن.

من الواضح بجلاء أن مفهوم "النظام الدولي القائم على القواعد" يمثل لعنة جاثمة على صدر ترامب. ففي نهاية المطاف، قد يضطرك اتباع القواعد إلى القيام بشيء لا تريده، وقد يفرض تكاليف باهظة قصيرة الأجل على بلدك.

ويبدو جليًا أن ترامب يعتقد جازمًا أن القواعد الحالية لا تعزز المصالح الأميركية في الأمد البعيد. ويبدو أن هدفه الأسمى هو تعظيم حريته في التصرف في جميع الأوقات، وهذا يفسر ميله الفطري إلى النظر إلى التحالفات باعتبارها أعباء ثقيلة.

ويرسم لنا جيلمان أهم ملمح في النظام العالمي القادم، الذي سيقوم على "صراع الحضارات"، في تقديره. ويرى أن "فكرة صراع الحضارات لم تكن خاطئة، بل كانت سابقة لأوانها فقط"، هكذا عنون مقاله.

وأيًا كانت التسمية التي قد تُطلق على هذا النظام الجديد في نهاية المطاف، فإن سماته المميزة، وفق تقدير جيلمان، سوف تشمل المعاملات الصفرية في الاقتصاد الدولي، وسياسات القوة التي تتلخص في أن "الأقوياء يفعلون ما في وسعهم، والضعفاء يعانون ما يجب عليهم أن يتحملوه"، والتأكيدات القوية على سياسات الهوية التي تركز بشكل أساسي على "الدول الحضارية".

ولكن ما المقصود تحديدًا بالدولة الحضارية؟ وما هو التأثير الفعلي لإحيائها على الصراعات والنزاعات المحتدمة في عالم قيد التشكل؟ وما هو موقعنا نحن العرب في هذا الصراع في سياق الحرب الدائرة في فلسطين، والتي تحولت لدى الكيان الصهيوني إلى حرب ضروس على الهوية؟ وأخيرًا وليس آخرًا، هل يمكن أن تساهم عملية طوفان الأقصى المباركة في إعادة تأكيد ذاتنا الحضارية في مواجهة الآخرين؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة